lundi 17 avril 2017

قضايا اجتماعية

منذ ظهر دين الله في الأرض، وتدافعت أمواجه شمالا وجنوبا وشرقًا وغربًا، وضرب تياره أسوار العالم المحيط به، وطهر بلادًا كثيرة وغسلها مما فيها من الشرك والكفر والإهلال لغير الله - سبحانه -، أخذت تتجمع في أطرافه عداوة لا تنام، وبقيت هذه العداوة تنازل جنود الله عامًا بعد عام في ثغور الإسلام. ثم احتشدت هذه العداوات المتفرقة في الثغور حشدًا واحدًا، بدأت به الغزوات المتلاحقة التي عرفت في التاريخ باسم الحرب الصليبية، وظلت هذه الحروب مشبوبة قرونًا طويلة، وأداتها السلاح والجيوش والمواقع. ثم انتهت حرب السلاح والجيوش، إذ وضع العالم الإسلامي سلاحه، بل أصحُّ من ذلك أن العالم الإسلامي يومئذ لم يكن معه سلاح يضعه أو يرفعه، وإذا كان فيه سلاح، فهو سلاح لا يغني عنه في لقاء هذه الأسلحة الجديدة التي جاءت مع الغزاة، ومن يومئذ انتقلت الحرب الصليبية من ميادين القتال إلى ميدان آخر: هو الحياة نفسها! كانت خطة الحرب الصليبية الجديدة هو دك الحياة الإسلامية كلِّها: تدكُّ بناء هذه الحياة، وتدكُّ علمها، وتدكُّ آدابها، وتدكُّ أخلاقها، وتدكُّ تاريخها، وتدكُّ لغتها، وتدكُّ ماضيها، وفي خلال ذلك ينشأ بناء جديد لهذه الحياة، بعلم غير العلم الأول، وأدب غير الأدب، وأخلاق غير الأخلاق، وتاريخ غير التاريخ، ولغة غير اللغة، وماض غير الماضي، ويأتي يوم فإذا الهزيمة واقعة كما وقعت في الميادين، ويصبح العالم الإسلامي وليس معه من الحياة التي كان بها عالـمًا صحيحًا، إلا بقايا لا تغني عنه، كما أصبح يومًا في ميدان الحرب، ومعه بقايا أسلحة لا تغني عنه شيئًا. جاءت الغزوات الصليبية الجديدة متلاحقة سريعة نفاذة، تنشر طلائعها الأولى في كل مكان، مزودة بالفهم والإدراك والمعرفة بطبيعة هذا الميدان الجديد، فتلقى قومًا قد سُلبوا الفهم والإدراك والمعرفة لطبيعة هذا الميدان، ولكنهم كانوا بفطرتهم يعلمون أن هذه الطلائع عدو لهم، فقاومهم من قاومهم بما تستثيره الفطرة من بغض العدوِّ والشكِّ فيه، وإن جاء في ثوب المسالم والناصح، وتهاوى آخرون، فوقعوا في حَوْزة العدوِّ، إذ غرَّتهم مسالمته وخدعهم نصحه، وظلَّت هذه الحروب دائرة بيننا وبينهم أكثر من مئة وخمسين عامًا، في سكون وصمت، ولجاجة وحرص، وقوة وحذر، ومعرفة وبصر، حتى بلغ العدوُّ منَّا مبلغًا لم يكن في أول الأمر يظنُّ أنه يبلغه، فقد تهاوى البناء كله فجأة، وأصبحت الحياة الإسلامية أطلالًا يناديها الفناء فتجيب بلا مقاومة ولا عناد. ذهب كلُّ شيء يكون للحياة البشرية قوامًا وعمادًا: ذهب العلم والأدب والأخلاق واللغة والتاريخ، وجاءه الغزاة بما يحلُّ مكانه من علم وأدب وأخلاق ولغة وتاريخ. ذهب الذي كان ينبع نبعه من كتاب الله، ومن حياة الأمة المسلمة، وسنة رسوله، وجاء الذي ينبع نبعه من الحياة الوثنية القديمة، ومن المسيحية المحدثة، ذهب الذي كان يتحدر إلينا كما تتحدر الوارثات من أصلاب الآباء إلى أصلاب الأبناء، وجاء الذي يتحدر إلينا كما يتحدر السيل الجارف لا يُبقى ولا يذر، ذهب شيء وجاء شيء، فتغيَّر نظرنا وفكرنا، وتغيَّر إدراكنا ومعرفتنا، وتغيَّر شعورنا وإحساسنا، وتغيَّر لساننا وبياننا، فعدنا ننظر في الكتاب الذي هو كتابنا، وأخبار النبي الذي هو نبينا، وآثار الماضين الذين هم آباؤنا، فأنكرنا ما وجدنا في ذلك كله، فطرحه منَّا مَن طرحه وراء ظهره، ولم يبال به، وتهيَّب منَّا مَن تهيَّب فوقف لا يدري ماذا يفعل، وبقيت طائفة لا تطرح ولا تتهيَّب، فطلبت مخرجًا مِن هذا الشيء الذي تنكره إنكارًا خفيفًا، وهو في هذه الصورة التي جاء عليها من التراث الماضي، فرأت المخرج في تجديد التراث الماضي تجديدًا مقاربًا، يطابق الحياة الجديدة من وجوه، وينكر الحياة القديمة من وجوه أخرى. ومن يومئذ انقسم العالم العربي والإسلامي إلى طائفتين: طائفة منكرة لا تعبأ شيئًا بالحياة الماضية كلها، وطائفة لم يبلغ بها الإنكار أن لا تعبأ، فالتمست تجديد الحياة الماضية على أسس جديدة، وإذا هذه الأسس التي تريد أن تؤسس عليها، هي في جوهرها مستمدة كلها من الحياة التي أنشأها الغازي الصليبي بين ظهرانينا. هذه صورة مصغرة للحياة في العالم الإسلامي الحاضر، لا يدركها المرء حتى يعلم أن العالم الإسلامي مقبل على خطر أبشع من خطر الغزو الصليبي الأول بالسلاح، مقبل على هزيمة منكرة تكون عاقبتها تبديل الإسلام تبديلًا كاملًا حتى لا يبقَى له من ظلِّ الحقِّ إلا ما بقي من ظل المسيحية الحقة في العالم المسيحي الحاضر. ودعاة هذا التبديل، علموا أو لم يعلموا، قد تعاوَوْا في كلِّ مكان باسم الدفاع عن الإسلام، وباسم إحياء الإسلام، وباسم تجديد الإسلام، وهم يعملون جاهدين على أن ينشروا دينهم الجديد كما ينبغي أن يُسمَّى بجميع الوسائل التي يظنون أنها تُفضي بهم إلى الدفاع عن الإسلام أو إحيائه أو تجديده، وهم على مرِّ الزمن سوف يتركون آثارًا عميقة في حياة العالم الإسلامي الحاضر، وسيتبعهم تابعون يقتفون آثارهم، مبعدين عن النهج الأول الذي بني عليه هذا الإسلام الذي يدافعون عنه أو يحيونه أو يجددونه! بل إن هؤلاء أنفسهم قد كانوا خلفاء لجيل سبق من قبلهم، أعمته الحياة التي بهرت عينيه، وزلزلت عقائده، فطلب كما يطلبون، الدفاع عن الإسلام وإحياءه وتجديده على أسس لم يستمدَّ أصلها من الحق الذي في دينه، بل من أصل بعيد هو الحياة التي يحياها العالم الصليبي الذي غلب وقهر وظهر مجده في هذه الأرض. إن هذا الوباء الذي يجتاح العقل الإسلامي والحياة الإسلامية، قد نفذ إلى كلِّ ركن في العالم، وسارت حُمَيَّاه سَوْرة مستبدة بكثير من رؤوس الدعاة. وانطلقت الألسنة مسرعة تُريد أن تبني بناء عقليًّا جديدًا لهذا الإسلام الذي تهدَّم بناؤه القديم، فما تجد لسانًا إلا وهو يرسل طوفانًا من الكلام بلا حذر ولا توقف، وكلُّ لسان يرى في الذي يرسله مادة صحيحة لبناء هذا العالم المتهدم. وأصبح كل داعية إمامًا يقتدى به، والمقتدون به لا يعلمون شيئًا إلا أن هذا السيل المرسل عليهم، ليس إلا أصلًا صحيحًا من أصول هذا الإسلام الذي يدعوهم إليه، وكل داعية يظنُّ نفسه ينبوعًا يروى الظامئين، يسألونه فيجيب، فيطوفون به طواف الوثني بالصنم، مادة علمهم أن يستمدوا منه ما يجود عليهم به، ولا يجد أحدهم متسعًا أن يلتمس علمه إلا من فيض لسان هذا الإمام الداعي، والإمام مشغول بالتماس المعاني التي يفيضها عليهم، وهم لا يسألونه من أين يأتي بها، وكلُّ داعية مشغول بإعداد المادة لمن يتبعه، لا يحذر ولا يخاف ولا يتحرَّى، وكل داعية مشغول عن الداعية الآخر، لا ينظر في أمره ولا يتعقبه ولا يقول له من أين جئت بهذا، بل لعله يغفل عن أفسد الفساد في قوله وفعله، وأقبح القبح الذي يبثُّه في أتباعه؛ لأنه يقول لنفسه: إننا مشغولون جميعا برمِّ هذا البناء الذي تهدم، بل ببناء شيء هو خير من الذي تهدم. وكل داعية منهم هو في الحقيقة منكر للحياة الأولى للإسلام، ولكنه يريد أن يقاوم الفناء بأن يستخرج من نواحي هذه الحياة ما يقنع هو به، ويقنع بعض الناس به: إن في ماضي الإسلام ما يمكن أن يكون مماثلًا للحياة الحاضرة، أو تصحيحًا لبعض أخطاء الحياة الحاضرة، بيد أنه لا يصل إلى ذلك إلا بنظره هو، وتفكيره هو، بصورة يرتضها هو، ولا يبالي أن يكون استدلاله في غير موضعه، ولا أن يكون فكره قد فسَّر الأشياء على غير ما ينبغي أن تكون عليه، أو على غير ما كانت عليه. فأعمال هؤلاء الدعاة، ليست في الحقيقة إلا ضربًا من هذيان هذا الوباء المقرون بالحمَّى، ليس له أصل إلا فَوْرة الدم في المحموم. فإذا استمرَّ أمر الإسلام على هذا الذي نراه، فقد انتهى كلُّ شيء، وإذا قُدِّر لهذا العالم الإسلامي أن تعتزل طائفة منه هذا الخبل الخابل، لتعيد النظر في الأصول الصحيحة لدينها، والتي لقي بها هذا الدين عالم الشرك والكفر فدكَّه ومزَّقه، وأقام فيه بناءً قاوم الفناء ثلاثة عشر قرنًا، فيومئذ تبدأ المرحلة الأولى لجهاد طويل شاق، يتحدى طواغيت الكفر بإيمان صحيح، لا تشوبه شائبة من هوى أصحاب الأهواء، بل هو طاعة الله ورسوله، لا يغنى غيرها شيء، (يوم لا ينفع مال ولا بنون إلا من أتى الله بقلب سليم). وأعود فأقول: من ظنَّ هذا تشاؤمًا وتثبيطا فليظن ما شاء له الظن! وليس يغني عن الأعمى شيئًا أن تقول له: أنت مبصر بعينين لماحتين. ولا عن المغروس في حومة الهلاك أن تقنعه بأنه خالد ليس للموت عليه سلطان. http://islamselect.net
الخطبة الأولى: أَمَّا بَعدُ: فَأُوصِيكُم ـ أَيُّهَا النَّاسُ ـ وَنَفسِي بِتَقوَى اللهِ - عز وجل -: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَلْتَنظُرْ نَفسٌ مَا قَدَّمَت لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللهَ إِنَّ اللهَ خَبِيرٌ بما تَعمَلُونَ * وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللهَ فَأَنسَاهُم أَنفُسَهُم أُولَئِكَ هُمُ الفَاسِقُونَ * لا يَستَوِي أَصحَابُ النَّارِ وَأَصحَابُ الجَنَّةِ أَصحَابُ الجَنَّةِ هُمُ الفَائِزُونَ). أَيُّهَا المُسلِمُونَ، رَوَى الدَّارِمِيُّ وَالحَاكِمُ وَغَيرُهُمَا عَن عَبد ِاللهِ بنِ مَسعُودٍ - رضي الله عنه - قَالَ: "كَيفَ أَنتُم إِذَا لَبِسَتكُم فِتنَةٌ يَهرَمُ فِيهَا الكَبِيرُ، وَيربُو فِيهَا الصَّغِيرُ، وَيتَّخِذُهَا النَّاسُ سُنَّةً، فَإِذَا غُيِّرَت قَالُوا: غُيِّرَتِ السُّنَّةُ"، قِيلَ: مَتَى ذَلِكَ يَا أَبَا عَبد ِالرَّحمَنِ؟ قَالَ: "إِذَا كَثُرَت قُرَّاؤُكُم وَقَلَّت فُقَهَاؤُكُم، وَكَثُرَت أُمَرَاؤُكُم وَقَلَّت أُمَنَاؤُكُم، وَالتُمِسَتِ الدُّنيَا بِعَمَلِ الآخِرَةِ، وَتُفُقِّهَ لِغَيرِ الدِّينِ".. رَضِي اللهُ عَنِ ابنِ مَسعُودٍ وَأَرضَاهُ، فَلَم يكُنْ لِيَقُولَ مِثلَ هَذَا مِن تِلقَاءِ نَفسِهِ أَو بِمَحضِ رَأيِهِ، إِذْ إِنَّهُ مِن أُمُورِ الغَيبِ الَّتي لا تُدرَكُ بِخَالِصِ الرَّأيِ وَلا تَصِلُ إِلَيهَا قُوَّةُ العَقلِ، أَمَّا وَقَد وَقَعَ مَا في كَلامِهِ - رضي الله عنه - في زَمَانِنَا هَذَا، فَتَسَابَقَ النَّاسُ عَلَى المَنَاصِبِ دُونَ أَهلِيَّةٍ لَهَا، وَتَنَافَسُوا في الشُّهرَةِ وَلَو بِمُخَالَفَةِ الحَقِّ، فَإِنَّ ذَلِكَ لَمِمَّا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ كَلامَ ابنِ مَسعُودٍ -وَإِن كَانَ مَوقُوفًا لَفظًا- فَإِنَّ لَهُ حُكمَ المَرفُوعِ مَعنَىً. وَإِنَّ المُسلِمَ لِيتَذَكَّرُ هَذَا الكَلامَ وَيستَحَضِرُهُ بِشِدَّةٍ وَالأُمَّةُ تُصدَمُ كُلَّ يَومٍ بما تُصدَمُ بِهِ مِن أَقوَالٍ شَاذَّةٍ وَآرَاءَ مَرجُوحَةٍ، تَستَنكِرُهَا الفِطَرُ السَّلِيمَةُ قَبلَ القُلُوبِ التَّقِيَّةِ، وَلَكِنَّ كَثِيرِينَ قَد لا يَستَنكِرُونَهَا بَل وَيفرَحُونَ بها وَينتَشُونَ لِظُهُورِهَا، وَيُسَارِعُونَ لِتَلمِيعِهَا وَنَشرِهَا وَالتَّروِيجِ لَهَا، كَمَا تَفعَلُ ذَلِكَ في الغَالِبِ وَسَائِلُ الإِعلامِ مِنَ الجَرَائِدِ وَالقَنَوَاتِ، لا لِرَأيٍ مُعتَبَرٍ اطَّلَعُوا عَلَيهِ فَتَبَنَّوهُ، وَلا لِفِقهٍ جَدِيدٍ وَجَدُوهُ فَأَذَاعُوهُ، وَإِنَّمَا لأَنَّهُم وَمَن سَارَ مَعَهُم قَد تَعَوَّدُوا عَلَى بَعضِ المُنكَرَاتِ وَنَبَتَت عَلَيهَا لُحُومُهُم، وَتَشَرَّبَتهَا قُلُوبُهُم وَجَرَت بها دِمَاؤُهُم، فَأَرَادَ لَهُمُ الشَّيطَانُ بَعدَ أَن أَيَّسَهُم مِن التَّوبَةِ مِنهَا أَن ينقُلَهُم مِن مُجَرَّدِ الوُقُوعِ فِيمَا صَغُرَ مِنهَا وَمَا كَبُرَ، إِلى أَن يقَعُوا في وَرَطَاتٍ تَصعُبُ النَّجَاةُ مِنهَا، مِن القَولِ عَلَى اللهِ بِغَيرِ عِلمٍ، وَتَحلِيلِ مَا حَرَّمَهُ اللهُ وَتَحرِيمِ مَا أَحَلَّهُ، وَالافتِيَاتِ عَلَى الشَّرِيعَةِ وَالتَّقَدُّمِ بَينَ يدَي أَئِمَّةِ الفِقهِ مِن المُتَقَدِّمِينَ وَالمُتَأَخِّرِينَ، أَو تَقُوِيلِهِم مَا لم يَقُولُوا وَتَلبِيسِهِم مَا لم يَلبَسُوا، وَالشُّذُوذِ عَنِ الصِّرَاطِ المُستَقِيمِ وَاتِّبَاعِ غَيرِ سَبِيلِ المُؤمِنِينَ، فَلا إِلَهَ إِلاَّ اللهُ! كَيفَ يَفعَلُ بِالمَرءِ ضَعفُ انقِيادِهِ لِلشَّرعِ وَتَسَاهُلُهُ بِالأَوَامِرِ وَالَنَّوَاهِي؟ وَكَيفَ يصِيرُ مَآلُهُ حِينَ يَتَّبِعُ خُطُوَاتِ الشَّيطَانِ وَينسَاقُ وَرَاءَهَا، فَمِن تَركِ السُّنَنِ وَالوُقُوعِ في المَكرُوهَاتِ، إِلى انتِهَاكِ المُحَرَّمَاتِ وَالتَّهَاونِ بِالوَاجِبَاتِ، إِلى السُّقُوطِ في شِرَاكِ البِدَعِ وَالمُحدَثَاتِ، ثُمَّ يكُونُ بَعدُ مَا يكُونُ مِن زَيغٍ وَضَلالاتٍ، وَهَكَذَا لا يُزِيغُ اللهُ قَلبَ عَبدٍ حَتَّى يكُونَ هُوَ الجَانيَ عَلَى نَفسِهِ، قَالَ - سبحانه -: (وَنُقَلِّبُ أَفئِدَتَهُم وَأَبصَارَهُم كَمَا لم يُؤمِنُوا بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ)، وَقَالَ - جل وعلا -: (فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللهُ قُلُوبَهُم)، وَهَكَذَا يُقبَضُ العِلمُ وَتَندَرِسُ مَعَالِمُ الحَقِّ، وَيصِيرُ المَعرُوفُ مُنكَرًا وَالمُنكَرُ مَعرُوفًا، وَيُصَدَّقُ الكَاذِبُ وَيُكَذَّبُ الصَّادِقُ، وَيُؤتَمَنُ الخَائِنُ وَيُخَوَّنُ الأَمِينُ، حِينَ تَكُونُ وَسَائِلُ الإِعلامِ هِيَ الرَّائِدَةَ لِعُقُولِ النَّاسِ، تَتَقَدَّمُهُم إِلى كُلِّ مَرعًى وَخِيمٍ، وَتَأخُذُ بِهِم إِلى كُلِّ مَرتَعٍ وَبِيلٍ، فَتَجعَلُ الصَّحَفِيَّ مُفتِيًا، وَتُظهِرُ الجَاهِلُ بِمَظهَرِ العَالِمِ، وَتُلَمِّعُ المَفتُونِينَ مِمَّن استَهوَتهُمُ الشُّبهَةُ وَمَلَكَهُم بَرِيقُ الشُّهرَةِ، فَتُبرِزُهُم بِزِيِّ العُلَمَاءِ العَارِفِينَ، وَتَغُشُّ بِهِمُ العَامَّةَ وَالغَافِلِينَ، وَصَدَقَ - صلى الله عليه وسلم - حَيثُ قَالَ: ((إِنَّ اللهَ لا يَقبِضُ العِلمَ انتِزَاعًا يَنتَزِعُهُ مِنَ النَّاسِ، وَلَكِنْ يَقبِضُ العِلمَ بِقَبضِ العُلَمَاءِ، حَتَّى إِذَا لم يُبقِ عَالِمًا اتَّخَذَ النَّاسُ رُؤُوسًا جُهَّالاً فَسُئِلُوا فَأَفتَوا بِغَيرِ عِلمٍ فَضَلُّوا وَأَضَلُّوا)) رَوَاهُ الشَّيخَانِ. أَيُّهَا المُسلِمُونَ، لَقَد بَدَأَت تَظهَرُ في الآوِنَةِ الأَخِيرَةِ مَقَالاتٌ شَاذَّةٌ، وَآرَّاءُ مُخَالِفَةٌ لِسَبِيلِ المُؤمِنِينَ، تُسَمِّيهَا وَسَائِلُ الإِعلامِ فَتَاوَى لِتَكبِيرِ أَمرِهَا، وَتُجرِي اللِّقَاءَاتِ وَالحِوَارَاتِ حَولَهَا لِتَعظِيمِ شَأنِهَا، وَتُقَلِّبُهَا عَلَى كُلِّ جَانِبٍ لِتَمكِينِهَا في قُلُوبِ العَامَّةِ، وَتَاللهِ مَا هِيَ بِالفَتَاوَى وَلا الفَتَاوَى مِنهَا في شَيءٍ، بَل هِي شُذُوذَاتٌ وَشُبُهَاتٌ، وَانحِرَافَاتٌ وَسَقَطَاتٌ، وَوَرْطَاتٌ وَزَلاَّتٌ، وَإِنَّ مِنَ الابتِلاءِ أَن يَقَعَ بَعضُ النَّاسِ في حَيرَةٍ مِن أَمرِهِ حِينَ يَسمَعُهَا، أَو تُؤَدِّيَ بِهِ إِلى أَن يَحقِرَ العِلمَ وَأَهلَهُ وَيَتِّهِمَهُم بِالتَّضَارُبِ، نَاسِيًا أَو مُتَنَاسِيًا أَنَّ اللهَ - جل وعلا - في كِتَابِهِ قَد ذَكَرَ مِثلَ هَذَا وَأَشَارَ إِلى مَا يَجِبُ عَلَى المُؤمِنِ حِيالَهُ، قَالَ - سبحانه -: (هُوَ الَّذِي أَنزَلَ عَلَيكَ الكِتَابَ مِنهُ آيَاتٌ مُحكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ في قُلُوبِهِم زَيغٌ فَيتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنهُ ابتِغَاءَ الفِتنَةِ وَابتِغَاءَ تَأوِيلِهِ وَمَا يعلَمُ تَأوِيلَهُ إِلاَّ اللهُ وَالرَّاسِخُونَ في العِلمِ يقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِن عِندِ رَبِّنَا وَمَا يذَّكَّرُ إِلاَّ أُولُو الأَلبَابِ)، فَقَسَّمَ - سبحانه - وَلَهُ الحِكمَةُ البَالِغَةُ كِتَابَهُ إِلى آيَاتٍ مُحكَمَاتٍ وَاضِحَاتِ الدَّلالَةِ، لَيسَ فِيهَا شُبهَةٌ وَلا إِشكَالٌ، وَجَعَلَهُنَّ أَصلَهُ الَّذِي يَرجِعُ إِلَيهِ كُلُّ مُتَشَابِهٍ، وَتِلكَ الآيَاتُ هِيَ مُعظَمُهُ وَأَكثَرُهُ، ثُمَّ جَعَلَ مِنهُ آيَاتٍ أُخَرَ مُتَشَابِهَاتٍ، يَلتَبِسُ مَعنَاهَا عَلَى كَثِيرٍ مِنَ الأَذهَانِ، إِمَّا لِكَونِ دَلالَتِهَا مُجمَلَةً، أَو لأَنَّهُ يتَبَادَرُ إِلى بَعضِ الأَفهَامِ غَيرُ المُرَادِ مِنهَا، وَقَد كَانَ الوَاجِبُ عَلَى المُسلِمِ أَن يَرُدَّ المُتَشَابِهَ إِلى المُحكَمِ وَالخَفِيَّ إِلى الجَلِيِّ؛ لأَنَّهُ لا سَبِيلَ لِلوُصُولِ إِلى الحَقِّ إِلاَّ هَذَا المَسلَكُ، لِيُصَدِّقَ بَعضُ القُرآنِ بَعضًا، وَلِئَلاَّ يَحصُلَ فِيهِ مُنَاقَضَةٌ وَلا مُعَارَضَةٌ، وَلَكِنَّ النَّاسَ مَعَ هَذَا انقَسَمُوا إِلى فِرقَتَينِ: فِرقَةٌ زَاغَت قُلُوبُهُم وَمَالَت عَن الاستِقَامَةِ، وَانحرَفُوا عَن طَرِيقِ الهُدَى وَالرَّشَادِ بِسَبَبِ فَسَادِ مَقَاصِدِهِم وَتَحَرِّيهِمُ الغَيَّ وَالضَّلالَ، فَتَرَكُوا المُحكَمَ الوَاضِحَ وَذَهَبُوا إِلى المُتَشَابِهِ طَلَبًا لِفِتنَةِ مِنَ أَرَادَ اللهُ فِتنَتَهُ: (وَمَن يُرِدِ اللهُ فِتنَتَهُ فَلَن تَملِكَ لَهُ مِنَ اللهِ شَيئًا)، وَأَمَّا القِسمُ الثَّاني وَهُمُ الرَّاسِخُونَ في العِلمِ، فَرَدُّوا المُتَشَابِهَ إِلى المُحكَمِ، وَفَسَّرُوا بَعضَ القُرآنِ بِبَعضٍ وَلم يَضرِبُوا بَعضَهُ بِبَعضٍ، لِعِلمِهِم وَيقِينِهِم أَنَّ كَلاًّ مِنَ المُحكَمِ وَالمُتَشَابِهِ مِن عِندِ رَبِّهِم، وَمَا كَانَ مِن عِندِهِ فَلَيسَ فِيهِ تَعَارُضٌ وَلا تَنَاقُضٌ بِأَيِّ وَجهٍ مِنَ الوُجُوهِ، بَل هُوَ مُتَّفِقٌ يُصَدِّقُ بَعضُهُ بَعضًا وَيَشهَدُ بَعضُهُ لِبَعضٍ، وَمِن ثمَّ صَارَ أُولَئِكَ هُم أُولي الأَلبَابِ الخَالِصَةِ وَأَصحَابَ العُقُولِ الرَّاجِحَةِ، وَصَارَ مَن سِوَاهُم مِن مُتَّبِعِي المُتَشَابِهِ هُمُ القُشُورَ الَّتي لا نَفعَ فِيهَا، وَلِعِلمِ اللهِ - سبحانه - أَنَّ مِنَ النَّاسِ مَن يَزِيغُ وَالحَقُّ بَينَ يدَيهِ أَو يَضِلُّ وَالقُرآنُ بَينَ جَنبَيهِ، فَقَد أَخبَرَ عَنِ الرَّاسِخِينَ في العِلمِ أَنَّهُم يَدعُونَ قَائِلِينَ: (رَبَّنَا لا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعدَ إِذْ هَدَيتَنَا وَهَبْ لَنَا مِن لَدُنكَ رَحمَةً إِنَّكَ أَنتَ الوَهَّابُ)، وَهَذَا الَّذِي جَاءَت بِهِ هَذِهِ الآيَاتُ ـ عِبَادَ اللهِ ـ قَد جَاءَ في المُتَّفَقِ عَلَيهِ مِن حَدِيثِ النُّعمَانِ بنِ بَشِيرٍ - رضي الله عنه - قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: ((الحَلالُ بَيِّنٌ وَالحَرَامُ بَيِّنٌ، وَبَينَهُمَا مُشتَبِهَاتٌ لا يَعلَمُهُنَّ كَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ، فَمَنِ اتَّقَى الشُّبُهَاتِ استَبرَأَ لِدِينِهِ وَعِرضِهِ، وَمَن وَقَعَ في الشُّبُهَاتِ وَقَعَ في الحَرَامِ، كَالرَّاعِي يَرعَى حَولَ الحِمَى يُوشِكُ أَن يَرتَعَ فِيهِ، أَلا وَإِنَّ لِكُلِّ مَلِكٍ حِمَىً، أَلا وَإِنَّ حِمَى اللهِ مَحَارِمُهُ، أَلا وَإِنَّ في الجَسَدِ مُضغَةً إِذَا صَلَحَت صَلَحَ الجَسَدُ كُلُّهُ، وَإِذَا فَسَدَت فَسَدَ الجَسَدُ كُلُّهُ، أَلا وَهِي القَلبُ))، أَلا فَاتَّقُوا رَبَّكُم وَتَمَسَّكُوا بِدِينِكُم، وَاعتَصِمُوا بِحَبلِ اللهِ وَالزَمُوا جَمَاعَةَ المُسلِمِينَ، وَخُذُوا بِأَقوَالِ العُلَمَاءِ الرَّاسِخِينَ، وَإِيَّاكُم وَمَشَاقَّةَ الرَّسُولِ وَاتِّبَاعَ غَيرِ سَبِيلِ المُؤمِنِينَ: (وَمَن يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِن بَعدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الهُدَى وَيتَّبِعْ غَيرَ سَبِيلِ المُؤمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلىَّ وَنُصلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَت مَصِيرًا)، وَاعلَمُوا أَنَّ الأَقوَالَ الشَّاذَّةَ لَن تَقِفَ عِندَ حَدٍّ وَلَن تَنتَهِيَ، فَقَد وُجِدَت مُنذُ قُرُونٍ طَوِيلَةٍ وَظَهَرَت مُنذُ آمَادٍ بَعِيدَةٍ، وَمَا زَالَتِ البَلوَى بها تُصِيبُ بَينَ حِينٍ وَحِينٍ، وَمَن أَحسَنَ الظَّنَّ عَلِمَ أَنَّ كُلَّ بَني آدَمَ خَطَّاءٌ، وَلم يَزَلِ العُلَمَاءُ يُصِيبُونَ وَيُخطِئُونَ، فَمَاذَا نَحنُ فَاعِلُونَ؟! هَل سَنَنجَرِفُ وَرَاءَ كُلِّ شُذُوذٍ وَمُخَالَفَةٍ؟! هَل سَنَقَعُ في الفِتنَةِ عِندَ أَوَّلِ نَازِلَةٍ؟! هَل سَنُغَيِّرُ قَنَاعَاتِنَا وَنَقتَلِعُ ثَوَابِتَنَا لأَدنى شُبهَةٍ؟! إِنْ كُنَّا كَذَلِكَ فَبِئسَ القَومُ نَحنُ!! وَلَو أَنَّا أَخَذنَا بِزَلَّةِ كُلِّ عَالِمٍ وَانزَلَقنَا مَعَ كُلِّ طَالِبِ عِلمٍ في سَقَطَاتِهِ، لاجتَمَعَ فِينَا الشَّرُّ كُلُّهُ، وَلَصِرنَا عَبِيدًا لأَهوَائِنَا لا عَابِدِينَ لِرَبِّنَا، وَقَد حَذَّرَنَا النَّاصِحُ الشَّفِيقُ مِمَّن يَأتُونَنَا بِالغَرَائِبِ وَيُحَدِّثُونَ بِشَوَاذِّ المَسائِلِ فَقَالَ - عليه الصلاة والسلام -: ((يَكُونُ في آخِرِ الزَّمَانِ دَجَّالُونَ كَذَّابُونَ، يَأتُونَكُم مِنَ الأَحَادِيثِ بما لم تَسمَعُوا أَنتُم وَلا آبَاؤُكُم، فَإِيَّاكُم وَإِيَّاهُم)) رَوَاهُ مُسلِمٌ. وَحَتَّى مَعَ إِحسَانِ الظَّنِّ بِبَعضِ مَن تَزِلُّ بِهِمُ الأَقدَامُ وَيَشِذُّونَ، فَإِنَّ المَوقِفَ الصَّحِيحَ أَن يُحفَظَ لَهُم حَقُّهُم وَيُعرَفَ قَدرُهُم، وَلَكِن لا يُرفَعُونَ فَوقَ مَنزِلَتِهِم وَلا يُقَرُّونَ عَلَى خَطَئِهِم، فَإِنَّ نَبيَّ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - قَد قَالَ: ((مَثَلُ مَا بَعَثَني اللهُ بِهِ مِنَ الهُدَى وَالعِلمِ كَمَثَلِ الغَيثِ الكَثِيرِ أَصَابَ أَرضًا، فَكَانَ مِنهَا نَقِيَّةٌ قَبِلَتِ المَاءَ فَأَنبَتَتِ الكَلأَ وَالعُشبَ الكَثِيرَ، وَكَانَت مِنهَا أَجَادِبُ أَمسَكَتِ المَاءَ فَنَفَعَ اللهُ بها النَّاسَ فَشَرِبُوا وَسَقَوا وَزَرَعُوا، وَأَصَابَ مِنهَا طَائِفَةً أُخرَى إِنَّمَا هِيَ قِيعَانٌ لا تُمسِكُ مَاءً وَلا تُنبِتُ كَلأً، فَذَلِكَ مَثَلُ مَن فَقُهَ في دِينِ اللهِ وَنَفَعَهُ مَا بَعَثَني اللهُ بِهِ فَعَلِمَ وَعَلَّمَ، وَمَثَلُ مَن لم يَرفَعْ بِذَلِكَ رَأسًا وَلم يَقبَلْ هُدَى اللهِ الَّذِي أُرسِلتُ بِهِ))، فَلَيسَ كُلُّ مَن حَفِظَ القُرآنَ صَارَ فَقِيهًا، وَإِن كَانَ في الوَاقِعِ لَدَيهِ مِنَ العِلمِ مَا لَدَيهِ، فَليُنتَبَهْ لِذَلِكَ وَلَيُؤخَذْ بِهِ، وَليُقتَصَرْ في أَخذِ الفَتوَى عَن أَهلِهَا المَعرُوفِينَ بها، فَبِذَلِكَ أَمَرَنَا رَبُّنَا - سبحانه - فَقَالَ: (وَمَا أَرسَلنَا مِن قَبلِكَ إِلاَّ رِجَالاً نُوحِي إِلَيهِم فَاسأَلُوا أَهلَ الذِّكرِ إِن كُنتُم لا تَعلَمُونَ * بِالبَيِّنَاتِ وَالزُّبُرِ وَأَنزَلنَا إِلَيكَ الذِّكرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيهِم وَلَعَلَّهُم يتَفَكَّرُونَ). الخطبة الثانية: أَمَّا بَعدُ: فَاتَّقُوا اللهَ - تعالى - وَأَطِيعُوهُ وَلا تَعصُوهُ، وَرَاقِبُوا أَمرَهُ وَنَهيَهُ وَخَافُوهُ وَلا تَنسَوهُ. أَيُّهَا المُسلِمُونَ، مِن آخِرِ مَا زَلَّت بِهِ أَفكَارُ بَعضِ مَن نَسأَلُ اللهَ لَهُمُ الهِدَايةَ وَالرُّجُوعَ إِلى الحَقِّ، القَولُ بِإِبَاحَةِ الغِنَاءِ وَالمَعَازِفِ، وَبَعِيدًا عَن مُنَاقَشَةِ هَذَا القَولِ وَالدُّخُولِ في مَتَاهَاتِ الشُّبُهَاتِ، فَهَذِهِ بَعضُ أَحَادِيثِ الصَّادِقِ المَصدُوقِ - عليه الصلاة والسلام - المُحَرِّمَةِ لِلغِنَاءِ وَالمَعَازِفِ، وَالمُحذِّرَةِ مِنَ اللَّهوِ وَالمُغَنِّينَ، رَوَى البُخَارِيُّ عَن أَبي مَالِكٍ الأَشعَرِيِّ - رضي الله عنه - أَنَّهُ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: ((لَيكُونَنَّ مِن أُمَّتي أَقوَامٌ يَستَحِلُّونَ الحِرَ وَالحَرِيرَ، وَالخَمرَ وَالمَعَازِفَ))، وَعَن أَنَسِ بنِ مَالِكٍ - رضي الله عنه - قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: ((صَوتَانِ مَلعُونَانِ في الدُّنيا وَالآخِرَةِ: مِزمَارٌ عِندَ نِعمَةٍ، وَرنَّةٌ عِندَ مُصِيبَةٍ)) أَخرَجَهُ البَزَّارُ وَصَحَّحَهُ الأَلبَانيُّ، وَعَن عَبدِ الرَّحمَنِ بنِ عَوفٍ - رضي الله عنه - قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: ((إِنِّي لم أُنْهَ عَنِ البُكَاءِ، وَلَكِنِّي نُهِيتُ عَن صَوتَينِ أَحمَقَينِ فَاجِرَينِ: صَوتٌ عِندَ نِعمَةٍ: لَهوٌ وَلَعِبٌ وَمَزَامِيرُ الشَّيطَانُ، وَصَوتٌ عِندَ مُصِيبَةٍ: لَطمُ وُجُوهٍ وَشَقُّ جُيُوبٍ وَرَنَّةُ شَيطَانٍ)) أَخرَجَهُ الحَاكِمُ وَالبَيهَقِيُّ وَغَيرُهُمَا وَصَحَّحَهُ الأَلبَانيُّ. وَعَن عَبدِاللهِ بنِ عَبَّاسٍ - رضي الله عنهما - قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: ((إِنَّ اللهَ حَرَّمَ عَلَيَّ ـ أَو حَرَّمَ ـ الخَمرَ وَالمَيسِرَ وَالكُوبَةَ، وَكُلُّ مُسكِرٍ حَرَامٌ)) أَخرَجَهُ أَبُو دَاودَ وَأَحمَدُ وَغَيرُهُم وَصَحَّحَهُ الأَلبَانيُّ، وَفي المُعجَمِ الكَبِيرِ قَالَ سُفيانُ: قُلتُ لِعَلِيِّ بنِ بُذِيمَةَ: مَا الكُوبَةُ؟ قَالَ: الطَّبلُ، وَعَن عِمرَانَ بنِ حُصَينٍ - رضي الله عنه - قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: ((يكُونُ في أُمَّتي قَذفٌ وَمَسخٌ وَخَسفٌ))، قِيلَ: يا رَسُولَ اللهِ، وَمَتَى ذَاكَ؟ قَالَ: ((إِذَا ظَهَرَتِ المَعَازِفُ، وَكَثُرَتِ القِيَانُ وَشُرِبَتِ الخُمُورُ)) أَخرَجَهُ التِّرمِذِيُّ وَغَيرُهُ وَصَحَّحَهُ الأَلبَانيُّ. أَيُّهَا المُسلِمُونَ، بَينَ حِينٍ وَآخَرَ يَقبِضُ رِجَالُ الحِسبَةِ عَلَى شَابَّينِ في خَلوَةٍ شَيطَانِيَّةٍ، أَو يَكشِفُونَ وَكرَ دَعَارَةٍ وَمَقَرَّ فَسَادٍ خُلُقِيٍّ، أَو تَعثُرُ السُّلُطَاتُ الأَمنِيَّةُ عَلَى لَقِيطٍ مَترُوكٍ لَدَى بَابِ مَسجِدٍ أَو مَدخَلِ مُستَشفًى أَو وَسَطَ سُوقٍ، أَو مَرمِيٍّ بِجَانِبِ حَاوِيَةٍ أَو مُلقًى عَلَى قَارِعَةِ الطَّرِيقِ، وَاللهُ - تعالى - يَقُولُ: (وَلا تَقرَبُوا الزِّنَا إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَسَاءَ سَبِيلاً)، وَالعُلَمَاءُ يقُولُونَ إِنَّ الغِنَاءَ بَرِيدُ الزِّنَا، وَإِنَّ مِنَ العَجَبِ أَن يَزعُمَ مِن يُبِيحُ الغِنَاءَ أَنَّهُ لا يَقُولُ بِإِبَاحَتِهِ إِلاَّ إِذَا كَانَ غَيرَ مُثِيرٍ لِلشَّهوَةِ، وَيَا سُبحَانَ اللهِ!! مَتَى كَانَ الغِنَاءُ لا يُثِيرُ الشَّهَوَاتِ، وَلا يَبعَثُ عَلَى الشَّوقِ إِلى لِقَاءِ النِّسَاءِ الأَجنَبِيَّاتِ؟! مَتَى كَانَت كَلِمَاتُ الغِنَاءِ خَارِجَةً عَن ذِكرِ مَفَاتِنِ النِّسَاءِ، وَتَهيِيجِ النَّاسِ عَلَى الفَوَاحِشِ؟! هَل سَمِعتُم مُغَنِّيًا يَحُثُّ عَلَى مَكَارِمِ الأَخلاقِ وَمَحمُودِ الصِّفَاتِ؟! هَل سَمِعتُم مُغَنِّيًا يَحُثُّ عَلَى العِفَّةِ وَالطَّهَارَةِ وَالنَّزَاهَةِ وَالابتِعَادِ عَن الخَنَا وَمَوَاطِنِ الرِّيبَةِ؟! لا وَاللهِ، مَا عَرَفنَا الغِنَاءَ وَالمُغَنِّينَ إِلاَّ هَائِمِينَ في أَودِيَةِ الغَيِّ وَالضَّلالَةِ، يَصِفُونَ مَفَاتِنَ النِّسَاءِ وَيَذكُرُونَ مَحَاسِنَهُنَّ، وَيُوقِعُونَ القُلُوبَ قَبلَ الأَعيُنِ عَلَى مَكَامِنِ الجَمَالِ في كُلِّ جُزءٍ مِن أَجسَادِهِنَّ، وَيَصِفُونَ لَوَاعِجَ الشَّوقِ وَيَشكُونَ حَرَارَةِ الحُبِّ، فَأَيُّ فِقهٍ هَذَا الَّذِي يَقُولُ بِهِ مَن يُبِيحُ الغِنَاءَ إِذَا لم يكُنْ يُثِيرُ الغَرَائِزَ؟ إِنَّ مَن يَقُولُ بِهَذَا كَمَن يقُولُ لا بَأسَ بِشُربِ الخَمرِ إِذَا لم تُسكِرْ، وَتَاللهِ إِنَّهُ إِذَا كَانَتِ الخَمرُ لا تَنفَكُّ عَنِ الإِسكَارِ وَإِذهَابِ العَقلِ، وَإِيقَاعِ شَارِبِهَا في الإِثمِ وَالكَبَائِرِ، فَإِنَّ الغِنَاءَ لا يَنفَكُّ عَن إِيقَادِ نَارِ الشَّهوَةِ وَتَحرِيكِ كَوَامِنِ الغَرِيزَةِ وَصَدِّ مُستَمِعِهِ عَن ذِكرِ اللهِ وَقِرَاءَةِ القُرآنِ وَعَنِ الصَّلاةِ، وَتَحبِيبِ الزِّنَا إِلَيهِ وَإِيقَاعِهِ في الفَوَاحِشِ. أَلا فَاتَّقُوا اللهَ ـ عِبَادَ اللهِ ـ فَإِنَّ الأُمَّةَ وَهِيَ في حَالِ حَربٍ مَعَ أَعدَائِهَا في الدَّاخِلِ وَالخَارِجِ لَيسَت بِحَاجَةٍ إِلى مَن يُبِيحُ لها الغِنَاءَ وَيَفتِنُهَا بِسَمَاعِهِ، فَيَزِيدُهَا غَفلَةً وَوَهنًا، وَيُلبِسُهَا خُمُولاً وَضَعفًا، بَل إِنَّ الوَاجِبَ عَلَى أَفرَادِهَا أَن يُقبِلُوا عَلَى رَبِّهِم وَيُكثِرُوا مِن ذِكرِهِ، فَذَلِكَ أَدعَى لَطُمَأنِينَةِ نُفُوسِهِم وَأَربَطُ لِقُلُوبِهِم وَأَقرَبُ لِنَصرِهِم، قَالَ - تعالى -: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُم فِئَةً فَاثبُتُوا وَاذكُرُوا اللهَ كَثِيرًا لَعَلَّكُم تُفلِحُونَ).
نشر سنة (1373هـ - 1954م) كارثة فلسطين من أعمق الكوارث أثراً في نفوس المسلمين الصادقين، وجميع الكوارث التي حلت بالمسلمين عدل من الله، تخفى على البسطاء أسراره، وتظهر للمتوسِّمين أسبابه، إلا قضية فلسطين، فإنَّ وجه العدل الإلهي فيها واضح مسفر، ذلك أنَّ العرب ومن ورائهم المسلمون لم يؤخذوا فيها على غرة. بل كانوا يحيطون علماً بنيات اليهود ومطامعهم في إقامة دولة في أرض الميعاد، وتحقيق حلمهم القديم الذي تزودوا به من يوم خرجوا من فلسطين أذلة صاغرين في سبي بابل، وما زالوا يغذون أبناءهم جيلاً بعد جيل بعودة ملك إسرائيل إلى بنيه، ويسندون أوهامهم فيه إلى نصوص دينية، ووعود إلهية على لسان بعض أنبيائهم، افتراها أحبارهم، وأيدوها بتلك الوعود المصطنعة؛ لترسخ في مستقر العقائد من أبنائهم، ويتوارثونها فيما يتوارثون. إن أجدادنا لم يأخذوا فلسطين من يد اليهود، وإنما أخذوها غلاباً من أيدي الروم، وحرَّروها من استعمارهم، وفي تحريرها تحرير لليهود أنفسهم، فماذا ينقم اليهود منا؟ ولماذا ينتقمون منا؟ ولماذا يجزون إحساننا لهم بالإساءة؟ ولماذا يستعينون علينا بأعدائنا وأعدائهم؟ إنه اللؤم المتأصل، والأنانية المركبة في الطباع المريضة، إن اللؤم قرين الضعف ودليله، فحيث ترى ضعف الطباع ترى لؤم الطباع، وقد جرت الدولة الإسلامية في تاريخها الطويل على معاملة اليهود بالحسنى؛ معاملة إلا تكن معاملة عمرية، فهي بمقربة منها إلا في الفرط والندرة، حينما ينقض اليهود عهداً، أو يظاهرون عدوًّا، وما أكثر ما يقع منهم ذلك؛ لأنه طبيعي فيهم، لا يكادون يصبرون عليه... التاريخ في سلسلته الزمنية الطويلة يشهد أن بني إسرائيل لم يكن لهم ملك مادي في فلسطين ولا في غيرها، كالذي تتأثَّله الأمم بالقوة والغلبة، وإنما كان لهم في فلسطين وما حولها من أرض الكنعانيين سلطان ديني أساسه النبوات، تسانده من القوة المادية ما تحتاج إليه الدعوات الدينية عادة، وما يظهر به ذلك السلطان الديني من مظاهر الملك المادية، ولكن ذلك الملك، وذلك المظهر، لا يخرج عن نطاق الدين المؤيد بالعلم والحكمة، كما وقع لداود وسليمان، فملكهما كان دينيًّا محضاً، وهل يحتاج بناء الملك المادي في مألوف العادة إلى تسخير الجند والطير والريح؟ وقد انقضى ذلك النوع من الملك بانقضاء زمنه، ولم تجر به سنة الله في الأمم والملوك، وكل ما يذكر عن ملوك بني إسرائيل فهو متأثر بذلك النوع، أو مصبوغ بصبغته، وفيما عدا تلك الفترات الدينية التي كان يقوم فيها الملك على الدين، أو يؤيد فيها الملك بالخوارق، أو يعضد بالعلم والحكمة، فإنَّ بني إسرائيل لم يظهروا في التاريخ كأمة مدنية تستطيع بمؤهلاتها البشرية، ومواهبها الفطرية المشاعة بين الأمم، أن تقيم دولة، أو تؤسس حضارة ذات خصائص جنسية منتزعة من الطبيعة الإسرائيلية، من غير اعتماد على عامل خارجي عبر الخوارق، وقد دعاهم موسى إلى الملك، وأكَّد لهم ذلك بوعد الله بعد أن يقوموا بالأسباب العادية، التي لا يقوم الملك إلا عليها، وأهمها الغلاب، والقتال في سبيله، فأبوا عليه، وعَنَّتوه جرياً على الطبيعة المتأصلة فيهم؛ من الجبن، والمذلة، وحب المكسب المادي الميسر الهنيء، وقالوا له تارة: (إِنَّ فِيهَا قَوْمًا جَبَّارِينَ وَإِنَّا لَنْ نَدْخُلَهَا حَتَّى يَخْرُجُوا مِنْهَا فَإِنْ يَخْرُجُوا مِنْهَا فَإِنَّا دَاخِلُونَ) [المائدة: 22] وقالوا له مرة أخرى: (فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلَا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ) [المائدة: 24].وقد لقى موسى الألاقي في سبيل دعوتهم إلى دخول الأرض المقدسة، وإعدادهم للملك، وفهم سنن الله فلم يفلح. واليهود في أخلاقهم النفسية، وطبعهم الأصيل شعب أناني، يحب الاستئثار بالفضائل الإنسانية، من دون أن يعمل لها، أو يضحِّي في سبيلها، ليذهب به الغرور كلَّ مذهب في تمجيد الجنس اليهودي، واصطفاء الله له على الشعوب، إلى درجة أن دماء الأمم الأخرى وأموالهم كلها مباحة له؛ لأنها مخلوقة لأجله، وتملك الغير لها إنما هو اعتداء وغصب، فسرقة أموال الناس في نظرهم ليست سرقة، وإنما هي استرجاع لحقٍّ كان مغصوباً، وهم ينتحلون لذلك نصوصاً من وضع أحبارهم، ولكنهم يسندونها إلى الله، ويسوقونها في صورة تدليل من الله بجنسهم، ويجادلون الله فيها، كما يجادل الكفءُ الكفءَ، حتى قالوا: (نَحْنُ أَبْنَاءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ) [المائدة: 18]، والأحباء هم قرابة الملك أو المقربون منه. وقد مرَّت بهم في تاريخهم فترات ترتفع فيها يد الله عنهم، ويوكلون إلى أنفسهم، فيضيع تدبيرهم، ويتكشفون عن جهل بتدبير البيوت، فضلاً عن تدبير الممالك والدول، وينتاهبهم الأقوياء من الفرس والرومان، فيبيدون خضراءهم، ويستبيحون حرماتهم، ويتقاسمهم السيف والتشريد والسبي، فلا يذهبون في ذلك إلى تعليله بعلله المعقولة، ولا يرجعون فيه إلى موازين صحيحة من أحوال الأمم، ولا يفقهون أن سنن الله تنالهم، كما تنال غيرهم، وإنما يقولون: ملحمة كتبها الله على بني إسرائيل. كلمة يقولونها كلما أحاطت بهم خطيآتهم، والتحمتهم الأمم، وذاقوا عواقب الأنانية، والكيد، والاغترار، واحتقار الأمم، وعدم الاعتبار للسنن الإلهية، ولاعتبارهم الملك وعزة الحياة استحقاقاً إلهيًّا، لا نتيجة للجهاد والقراع. لم يشهد لهم التاريخ موقف دفاع عن حوزة، ولا سجَّل لهم صفحة واحدة في حماية حمى، أو ذود عن حرمة وطن حازوه في ظل النبوة، ذلك أنَّ اليهود لا وطن لهم، ولا وطنية في طباعهم بمعناها المعروف عند الأمم، فادعاءهم للوطن القومي تدجيل وتضليل، وإنما الوطن القومي حلم دعا إليه منهم المهووسون، جرياً وراء أخيلة من الماضي العريق، من غير تبصر في طبائع الأشياء، وأَلْهية ابتكروها لهم؛ ليسلوهم بها عن المصائب التي جرَّتها عليهم أنانيتهم، وشيء زيَّنته لهم التطورات المتلاحقة في العالم، والداعي الأصيل إلى ذلك في نفوسهم هو حب المال؛ إذ كل شيء عند هؤلاء القوم- ما عدا المال- هو وسيلة لا مقصد في الفلسفة اليهودية، وقد كذبوا وعد الله لهم على لسان موسى من أن الأرض المقدسة كتبها الله لهم، وكتب لهم فيها التمكين إذا أخذوا بأسبابه، وأهمها القتال، وهم لا يحبون القتال؛ لأنه يؤدي إلى القتل، وهم أحرص الناس على الحياة. ولو أن أمة غير الأمة الإسرائيلية كانت سليمة الفطرة، وكانت سليمة النفوذ من آثار الاستعمار الفرعوني الطويل، سمعت من نبي كموسى عُشر ما سمعه بنو إسرائيل من موسى؛ من وعد الله إياهم بالملك والتمكين، إذا أخذوا بأبسط الأسباب لذلك- لأقبلوا على الموت مستبشرين، ولكن بني إسرائيل كذَّبوا وعد الله، ولم تفدهم مواعظ موسى في تلك القلوب الغلف، وفي تلك النفوس التي قتل الذل منها كلَّ عرق يخفق بالعزة، وما هو إلا أن جاوزوا البحر، وأهلك الله عدوهم وهم ينظرون، حتى حنُّوا إلى ما كانوا عليه من ذلٍّ، واستعباد، ووثنية، هي من آثار الذلِّ، والاستعباد الطويل، فأغواهم السامري، واتخذوا عجلاً من ذهب وعكفوا عليه وقالوا: (هَذَا إِلَهُكُمْ وَإِلَهُ مُوسَى) [طه: 88]، وقالوا لموسى: (اجْعَلْ لَنَا إِلَهًا كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ) [الأعراف: 138]، وإنك لا ترى في تاريخ الأمم النفسي أخلاقاً أفسدها الاستعباد، ولم ينجح فيها علاج الأنبياء ولا معجزاتهم، وهم أطباء الأرواح المريضة، كما ترى في أخلاق هذه الأمة المتبجحة باصطفاء الله لها دون الأمم. سقنا هذه الكلمة القصيرة المجردة من التنسيق التاريخي لنرى أن هذه الأمة ليست أمة ملك في تاريخها الطويل، وأنها لا تملك وسائله التي يملكها غيرها، فإذا قام لها ملك، ففي ظل النبوة والخوارق، وهي وسائل غير كسبية، وإذا تقلص عليها ذلك الظل، تداعت عليها الأمم، وأوسعتها قتلاً وسبياً وتحيفاً، ولم يزل هذا دأبهم إلى أن جاء الإسلام. جاء الإسلام، وكان من مقاصده الأولى بناء المملكة الإسلامية على صخرة السنن الإلهية، والأسباب والمسببات، لا على الخوارق، وكان من مقاصده نشر هدايته وفضائله في أرض النبوات الأولى، بعد تطهيرها من الجبروت الروماني، ومن الاستخذاء اليهودي، وإنا لنتلمح في قصة الإسراء والمعراج - وهما من صنع الله ثم من اتجاهات نبي الإسلام وتوجيهاته- ما يشعر بأن فتح الإسلام لمواطن الأنبياء ومدافنهم كان هو المقصد الأول للإسلام، وكأن خروج النبي بنفسه إلى تبوك من طريق الشام رمز إلى ذلك، وإيحاء به، وإنذار للرومان، ثم نتلمح في تجهيزه لجيش مؤتة لقتال الروم، ومن يواليهم من العرب والأنباط في مشارف الشام- أنه خطوة ثانية، ثم نتلمح في تجهيزه لجيش أسامة، وهو في مرض موته- تأييداً لتلك المرحلة، وكلها إنذارات للروم حققها ما بعدها. تم فتح المسلمين لفلسطين في أيام عمر، وإن هذا الفتح كسائر الفتوحات الإسلامية يحمل الهدى والسلام، ويفتح الأذهان قبل البلدان، وكان ينطوي على معنى الثأر لموسى ودينه وقومه اليهود لو كانوا يعقلون، فقد قطع دابر الرومان ودولتهم من فلسطين، وطهرها من ظلمهم، واستعبادهم لليهود، فلم يروا ناصراً قويًّا مثلما رأوا في الإسلام، لو كانوا يقدرون النعمة ويشكرونها، وبفتح المسلمين لفلسطين، وفيها بيت المقدس، رجع إرث النبوة إلى النبوة، واجتمعت مساجد الإسلام الثلاثة في يد واحدة قوية، قادرة على حمايتها، وعادت القبلة الأولى إلى الوجوه التي كانت تستقبلها، وإلى النفوس المطمئنة لعبادة الله وحده فيها، وإلى الأيدي القادرة على حملها، وإلى أبناء العم، لو كان اليهود يرعون للأرحام حرمة، وفي فتح أصحاب محمد لبيت المقدس تتجلى الفروق بين الطبيعتين العربية واليهودية، وشتان ما بين من يبذل مهجته في سبيل الله، وتثبيت دينه الحق في الأرض، وبين من يكذب وعده، ويشترط على رسوله، ويتألَّى عليه أن يؤتيه الملك والعز، وهو نائم ناعم، ويستعلي على خلقه. قضية فلسطين في جوهرها، وحقيقتها، واعتبارها التاريخي- قضية إسلامية، من حيث إن فيها المسجد الأقصى، ثالث المساجد المقدسة في حكم الإسلام، وهو أول قبلة صلَّى إليها المسلمون قبل الكعبة، ولئن نسخ هذا المعنى فإن الخصائص الأخرى من الاحترام الديني، وشد الرحال إليه لم تُنسخ، وإن المتوسمين في آيات الله، المستخرجين لدقائق الحكم منها، يتلمحون من الأسرار في اختيارها قبلة أولى، وفي كونها كانت نهاية للإسراء، وبداية للعروج- ما يضعها في موضع من الاحترام، يوجب الدفاع عن مشاعرها، ودفع كلِّ معتد على حرماتها أن تدنس بوثنية، وتطهيرها من كل من يريد بها شرًّا، أو يريد فيها بإلحاد، وأنها ميراث النبوة، وضعه الله في أيدٍ قادرة على حمايتها، وقد دافعت عنها بالفعل، وأقامت البرهان على اضطلاعها بحمايتها، مدة أربعة عشر قرناً كاملة، وحاربت عليها أمم الأرض، وما سلبها الله من اليهود، وأورثها المسلمين إلا لأن اليهود كانوا أعجز الناس عن حمايتها. ومن حيث إن فيها الصخرة التي هل أول محطة لاتصال الأرض بالسماء، ذلك الاتصال الذي كان سبباً فيما فاض على الأرض من بركات السماء، ولو شاء الله لكان المعراج بعبده محمد من مكة التي هي موطنه، ولكن كانت له في هذه الرحلة الأرضية حِكم، ولنا فيها عبر، فقد كانت رمزاً إلى أنَّ ملك الإسلام سيتسع حتى يبلغ في مرحلته الأولى ممالك النبوة قبله، ومواطنهم، ومواطئ أقدامهم، ومدافنهم، وسينشر فيها هدايته، وسيبسط عليها حمايته، وكذلك وقع، ومواريث النبوة لا يستحقها إلا الأنبياء، والمضطلعون بها من أممهم، ولقد قال - صلى الله عليه وسلم -: ((زويت لي من الأرض، فأريت مشارقها ومغاربها، وسيبلغ ملك أمتي ما زوي لي منها)). من التزوير على التاريخ أن يقال: إن اليهود احتلوا فلسطين بالقوة العسكرية، كما يحتل القوي الغالب أرض عدوه الضعيف المغلوب. إلا أن كلمة الحق التي يقف الواقع بجنبها شاهداً لا يكذب- هي أن ملوك العرب وزعماءهم، المتحكمين في مصائرهم، المنفذين لإرادة المستعمر- هم الذي سلَّموا فلسطين لليهود، سائغة هنية، وحققوا للإنجليز غايتهم، وما شرطه اليهود عليهم؛ من تسلم فلسطين فارغة من العرب، كما تُسلَّم الدار المبيعة فارغة من الساكن، فاصطنعوا لذلك التسليم المقرر وسائل وأعذاراً؛ من التخاذل والمشاكسات بين القادة العسكريين، حتى تمَّ الأمر بذلك التسليم المهين، وكلُّ ذلك تمَّ وفق خطة مدبرة، متصلة الحلقات من الإنجليز وأعوانهم منا، في مقابلة نفع مادي شخصي زائل، ومناصب مضمونة، لعدة رجال من العبيد، باعوا قومهم بتلك الوظائف، وما زلنا نراهم رأي العين يتقلبون في تلك الوظائف الذليلة، وينفذون أغراض الاستعمار، ويدافعون عنها، وقد حنَّ لهم الدهر، فنالوا ما نالوا. فيا ويحهم أن عقَّهم الدهر وصحا من تلك اللوثة، وما صحوُه منها ببعيد، وما مصرع فاروق وعبد الله ببعيد من الذين باعوا فلسطين بالثمن الزهيد، ومهما تكن تلك الوظائف مضمونة من الإنجليز، فإن وراءها الموت والعار والسبة الخالدة، ووراءها هبة الشعود وثورات المكبوتين. أما الصهيونية فهي قديمة ولقد كانت مرحلتها الأولى نسيجاً من أحلام وخيالات وأماني، ولكن كثرة ملابسات القائمين بها للدول الاستعمارية نقلتها من طور إلى طور، حين وجد كل من الاستعمار الأوروبي والصهيونية في صاحبه عوناً ومساعداً على أغراضه، ولم تزل المصالح المادية تقرب بينهما حتى اجتمعا في بعض النقط، فتعاهدا على تقارض العون والمساعدة إلى نهاية الشوط، وصاحب ذلك ضعف الشعوب العربية وإحباطها وجهلها، فكان ذلك كله معيناً على تنمية الفكرة، وجاءت الحرب العالمية الأولى والعرب على تلك الحالة، فاتفقت دول الاستعمار على تشتيت العرب، وتمزيق أوطانهم، واستغلال الكنوز التي يجهلونها في أرضهم وأهمها البترول، ولما كان نظر الاستعمار بعيداً، وعلم أن انتصاره في تلك الحرب يضمن له تشتيت العرب، وتمزيق بلادهم، ولكنه لا يضمن له بقاءهم على تلك الحالة طويلاً، فرأى أن يرميهم بالداهية الدهياء وهي تحقيق الوطن القومي لليهود. .
كلما زادت سنوات العشرة بين الزوجين، وكلمات زاد الاقتراب، وكلما عمقت العلاقة.. كلما زادت قدرتهما على التحاور غير المنطوق.. تصبح هناك وسائل أخرى غير الكلام للحوار والتواصل والإحساس، فيصبح كل منهما قادراً على قراءة وجه الآخر، بل من متابعة حركة العين ذاتها يستطيع أن يعرف الكثير عما يدور بخلده. تصبح الابتسامة أكثر تعبيراً وتأثيراً، وكذلك الإيماءة والحركة، وكذلك السلوك التلقائي والسلوك المقصود.. إنها درجات راقية من الاقتراب إلى الحد الذي يصبحان فيه كأنهما شخص واحد. ومنطقياً فإن الإنسان لا يتكلم مع نفسه بصوت مسموع، ولكن الحوار يكون داخلياً بين الإنسان ونفسه، حوارا غير مسموع، وهذا هو ما يحدث بين الزوجين الحبيبين بعد سنوات من الزواج. تصبح حواراتهما غير مسموعة لأنها غير كلامية وغير شفهية. هناك شيء آخر أكبر يتعلق بالإحساس بين الزوجين. فإحساس كل منهما بالآخر ينمو ويكبر ويعظم إلى الحد الذي لا يحتاج فيه إلى كلمات لنقله والتعبير عنه، إذ يصبح كل منهما في حالة إحساس دائم بالآخر. إحساس كل الوقت. عاطفة حقيقية راسخة مؤكدة، تبعث على الإحساس بالاطمئنان والأمان والاستقرار والثبات والخلود، ولذا تصبح أي كلمات غير كافية للتعبير عن هذه الدرجة السامية من العواطف. بذلك يصبح الصمت بليغاً أبلغ من الكلمات. يصبح للصمت قدرة تعبيرية هائلة. يصبح الصمت معناه قمة الإحساس بالآخر. يصبح الصمت معناه أن كلاً منهما يعيش داخل عقل الآخر، وأن روح كل منهما ملتصقة بروح الآخر. وهذا النوع من «الصمت الصحي» يختلف تماماً عن «الصمت المرضي» والذي يقصد به التعبير عن غضب أو رفض أو عداوة أو فراغ بالإحساس.. عندها يفقد الزوجان لغة التواصل، وتتفجر المشكلات، فتشتكي الزوجة من ظاهرة «الزوج الصامت» ويشتكي الزوج من ظاهرة «المرأة الثرثارة». لماذا يصمت الرجل؟ بداية لابد من التفريق بين صمت الزوج الجبلي الذي هو سمة من سمات شخصيته عموما، وبين صمت الزوج الوقتي بالأخص مع زوجته وداخل البيت، وهذا النوع من الخطورة التي تتعدد دوافعها ومسبباتها: 1- عندما يواجه الرجل مشكلة أو مسألة معقدّة أو يمّر بظروف صعبة، فغالباً ما يلجأ إلى الصمت، فهو يصمت لأنه يفكر بهدوء، ولأنه يعتبر أنه المسئول عن حلّ مشاكله بنفسه، ولا يحب أن يشاركه أحد في التفكير، وبعد أن يجد حلاً يعود تلقائيا إلى الحوار والتواصل مع الآخرين. في هذا الموقف من الخطأ أن تصرّ الزوجة على أن يتكلم الزوج عما يعتمل بداخله، فهذا يزيد من توتره لعدّم تفهّم زوجته حاجته النفسية للصمت والتفكير الذاتي. فالزوج لا يحب أن يشعر بأنه محط رعاية دائمة من زوجته فهذا يشعره بالضعف. 2- صمت الزوج المرهق الذي يحتاج فترة من الراحة للاستجمام واستعادة الطاقة.. جدير بالذكر أن المرأة عندما تكون متعبة تعبّر بصوت عال وتتكلم بطلاقة عما يتعبها، وعندما تخرج ما بداخلها ترتاح. لكن الرجل على العكس تماما حيث يفضل الصمت لاستعادة طاقته. من المهم للزوجة في تلك الحالة تجنب إمطار الزوج بوابل من الأسئلة خاصة عند دخوله المنزل بعد يوم عمل شاق، فهذا يزيد من ضجر الزوج، وقد يلجأ إلى الصمت أكثر للتهرّب من ثرثرة وفضول الزوجة.. التصرف الأمثل للزوجة يكون باستقباله بالملاطفة، فهذا من شأنه أن يعجل خروج الزوج من صمته ويستعيد نشاطه. وكم هو جميل أن تهتّم الزوجة بتأمين الجو الهادئ لراحة زوجها المرهق: كتجهيز حماما دافئا له، وترتب غرفة نومه بطريقة لطيفة، وإعداد طعاما يحبه، وتشعره بأنها تقدّر تعبه من أجلهم. 3- انشغال تفكير الزوج لفترات طويلة في قضايا العمل ومسؤولياته، فهذا الانشغال الفكري يدفعه للصمت والانغلاق في دائرة واحدة من التفكير ألا وهو العمل واهتماماته. تستطيع الزوجة أن تتحيّن الفرص والأوقات المناسبة للحديث معه ومناقشته في مشاكله واهتماماته. ولا بدّ للزوجة أن تتعلّم الأسلوب التشويقي والجذّاب لنقل الزوج من دائرة التفكير المغلقة إلى الحوار معها، ومن هذه الأساليب: - أن تتعلّم هواية الزوج، وتشاركه فيها. - أن تختار المواضيع الشيّقة التي تجذبه وتشد اهتمامه. - أن تتحدث بأسلوب تشويقي يتخلله طرح أسئلة مفتوحة، مثل: "هل تعلم ماذا حدث؟ ماذا تقول أنت؟ "، وأن تدخل عنصر المفاجئة في حديثها، وتدخل عنصر الفكاهة والمرح في الحوار. - تعرض عليه مسألة معقدّة أو مشكلة ما وتطلب منه المساعدة في حلّها. 4- أسباب أخرى تدفع الزوج للصمت، منها: -سماع تعليق خاطئ واستهزاء من زوجته عندما يتحدث. - مقاطعته كثيرا عند الكلام. - إصدار الأحكام المسبقة على حديثه قبل الانتهاء منه. - الاتهام المباشر واللوم والتهكّم أثناء الحديث معه. - تسخيف ما يطرحه من حديث أو يقترحه من حلول وأفكار. - أن تشعره الزوجة أنها تفهم أكثر منه في الموضوع الذي يحاورها فيه أو أن تلجأ إلى تصحيح معلوماته أو تحقّره بذلك. - أن لا تبدي الزوجة اهتماماً لما يطرحه من حديث. هنا يصمت الرجل ضجرا أو دفاعاً عن نفسه، وهذا الموقف له آثار سلبية على العلاقة الزوجية، ويجب على الزوجة أن تراجع نفسها وتغير من أسلوبها، وإلا فهي المسئولة عن صمت زوجها. من المهم أن تستبدل ذلك بمفردات المدح والتقدير والثناء، وتشعره بحاجتها إليه، وأن تعبّر له عن ثقتها فيه. لماذا تثرثر المرأة؟ 1- حاجة المرأة الدائمة للحوار، وأنها عندما تتحدث فهي تتواصل مع الآخرين، وبالتالي تشعر بقيمتها الذاتية.. هذه الثرثرة تعالج بالمصارحة والاتفاق بين الزوجين، على أنه باستطاعته أن يصغي إليها لفترة محددة، وعندما يمل يخبرها بالتوقف، أو يستأذناها بالاستراحة على أساس أن يكملا الحديث في وقت لاحق. وقد يتفق معها على أن يديرا الحوار، ويقسّما المواضيع المطروحة على أن ينهيا كل موضوع على حدة. 2- تثرثر المرأة عندما يكون لديها وقت كبير تقضيه بمفردها، وتعاني من وقت فراغ كبير لا تستثمره في أعمال مفيدة.. هنا يجب التنسيق بين الزوجين على وسائل معينة للاستفادة من وقت الفراغ، بإعداد برنامجاً من النشاطات والأعمال المفيدة التي تساعد الزوجة على الاستفادة من وقتها وتفريغ طاقاتها. ومن الرائع أن يتشاركا في أعمال واحدة يحققان فيها المزيد من التواصل بينهما. 3- تكثر الزوجة الكلام لأنها تشعر بعدم اهتمام الزوج بها وقلة تقديرها، ولا يعطي لها الوقت الكافي لأن يجلسا معا أو يخصصا وقتا بمفردهما. فتكثر الكلام لإثبات ذاتها لشعورها بأنها مهمّشة.. هنا يجب أن يحرص الزوج على تخصيص وقت محدد للإصغاء للزوجة، والسماح لها بالتعبير الحرّ عن ما يدور في خاطرها وما تكن مشاعر.. ومن المهم أن يعبّر لها عن تقديرها في الأمور الصغيرة والكبيرة التي تقوم بها لخدمته ولخدمة الأسرة، وأن يكافئها بالعطايا والهدايا المختلفة.

Aucun commentaire:

Enregistrer un commentaire